كان الجاحظ يلاحقُ الإجابات عن سؤال: ما البلاغة؟ مثل ملاحقته الاحتمالات المطروحة لتعليل تحريم لحم الخنزير، ومما أثاره في السؤال أنّه لا إجابة يمكن التّحقق من ثبوتها، ولذلك كانت البلاغة إمّا: - شيئا (انفعالا) تجيش به الصدور. - أو آلةً تنتقل في الدهور. - أو صمتًا حين يجب السكوت. - أو إفهامًا لشيء ليس من المعاني والألفاظ ولا يظهرُ إلا بها. - أو سطوةً على الحياة بإدراك لوازم الأفكار. وأميلُ إلى أنّه كان يجد راحةً في الصمت؛ لأنّه وجد في الإيجاز صوتًا وصمتًا، وأورد في ذلك جواب صحارٍ العبديّ: أن تجيب فلا تبطئ وتقول فلا تخطئ، ثم انتبه صحارٌ لطول صوته فأعاده أوجز من الذي سبقه قائلا: لا تبطئ ولا تخطئ. وكثيرٌ من الحذف إيجاز، وكثيرٌ من التكثيف إيجاز، وكثيرٌ من الصمت بلاغة؛ لأنّ عمرو بن عبيد يرى في طول...
يتراءى لي أنّ اهتمام المعتزلة بالبلاغة كان بسبب ما فهموه من الإعجاز في القرآن الكريم، وذلك أنّ الله تعالى تكلَّم بمعانٍ وألفاظٍ هي مما ألفه البشر بينهم وتكلموا به، وبان منهم الكلام بمثل القرآن. وهذا الأمرُ أشار إليه بشر بن المعتمر في صحيفته، أعني: أن تفهم معاني الخاصةِ بألفاظ العامّة، وأنْ تتسابق المعاني نحو القلوب تسابق الألفاظ نحو الأسماع. وكانت فكرةُ النقل بين الطبقات هي الأساس الذي دار عليه كتاب الجاحظ: البيان والتبيين، وزاد عليها أنّه نقل جواب كلثوم بن عمرو العتّابي عن سؤال: ما البلاغة؟ وشرح جوابه بأنّ ما زعمه العتّابي من أنّ البلاغة هي إفهام حاجتك مخاطبك ليس على الإطلاق، بل المقصود عند العتّابي إفهامك العرب حاجتك على مجاري كلام العرب الفصحاء. وهذه الزيادة عند الجاحظ وعي آخر استفاده من...
يبدو أنّ البلاغة الإفهامية قد أخذت على الجاحظ عقله، وليس ذاك لأنّها أحقّ من غيرها باسم البلاغة، بل لأنّها الأجدر بالمقامات التعليمية، والمواقف الاتصالية، والإنشاءات التي تجذب النَّظارة، وهي مع الإفهام تحفظ حدود الطبقات الاجتماعية، وتعدُّ من المشترك الإنسانيّ الذي لا يفلتُ من حقيقته الإنسان وإنْ كان يمكنه أنْ يلبس مما يتصلُ بها ما يكشف عما يمتاز به من غيره كالصوف الذي تصنع منه الثياب فحقيقته واحدة لكنّ أشكاله المنسوجة متنوعة. ولا تعني البلاغة الإفهامية أنْ يرتقي الممارس لها بالمستمع إلى طبقته؛ لأنّها تفصل بين الطبقات الاجتماعية، وترى أنّ لكل طبقة ما يشغلها عن أنْ تكون مفارقةً لما هي عليه، والانتقال من طبقة المتلقي إلى طبقةِ الملقي يعني تعطُّلَ الحياة، وليس الهدف في البلاغة الإفهامية أنْ نصنع...
كل عمليّة فهم إما أنْ تبدأ من الحال، ثم المقتضى، ثم إنشاء الكلام، أو أنْ تبدأ من الكلام، ثم المقتضى، ثم الحال، وهي في الأولى مطابقةٌ حال المقتضى، وفي الثانية تفهّم حال المقتضى. والسؤال المنتظر هنا: أين تقع البلاغة الإفهامية؟ وللجواب على ذلك أقول: إنها تقع في المرحلة الأولى؛ لأنّها المرحلةُ التي يلحظها المتكلِّم الذي ينوي نقل المعنى إلى الطبقة الجديدة، وهذه المرحلة لابد أنْ تكون المعاني على أقدار المستمعين، وأنْ تلبس من الألفاظ ما هو مستعملٌ ومتداولٌ بينهم، وأنْ ينزل المتن اللغويّ فيها إلى المستوى اللفظي الذي عليه أصحابُ الطّبقة، وأنْ تتسابق المعاني فيه مع الألفاظ، ومن مقتضيات المسابقة أنْ تكون معاني الخاصّة بألفاظ العامّة. وتقع في المرحلة الثانية البلاغةُ البيانية التي تتجاوز حدود الإفهام...
من الأخبار التي أوردها الجاحظ في استعمال الغريبِ من الكلام ذلك الخبرُ عن أبي علقمة النحوي مع الحجّام حين قال له وقد هاج به الدّم: "اشدد قصب الملازم، وأرهف ظبات المشارط، وأسرع الوضع وعجِّل النزع، وليكن شرطك وخزًا ومصُّك نهزًا، ولا تُكرِهنَّ أبيًّا ولا تردُّنَّ أبيًّا". والذي أجده أنَّ الجاحظ يشرح رأي العتّابي في الإفهام حين قال جوابًا عن سؤال: ما البلاغة؟ "كل من أفهمك حاجته من غير إعادة ولا حبسةٍ ولا استعانةٍ فهو بليغ". ويشرحُ كذلك قول بشر بن المعتمر المعتزلي: "فإنْ أمكنك أنْ تبلغ من بيان لسانك وبلاغة قلمك إلى أنْ افهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة فأنت البليغ التام". ومعنى ذلك أنّ الكلام ينقسمُ إلى ما يقصدُ به الإفهام وما يقصد به البيان، وأنّ الكلام في ترتيبه من جهة التميّز...
قال الجاحظ: "حتى كأنّ البيت بأسره كلمةٌ واحدة، وحتى كأنّ الكلمة بأسرها حرفٌ واحد"، وهذه العبارةُ الجاحظيّة مستخرجةٌ من رأي بشرٍ المعتزلي في أنّ الكلام لا يكون بليغًا حتى يُسابق لفظه معناه ويسابق معناه لفظه. وهي كذلك من معدنِ قولِ صُحارٍ العبديّ عندما سئل عن البلاغةِ فقال: أنْ تجيبَ فلا تبطئ… والعنصرُ الزائد في كلام الجاحظ أنْ يتّجه المتكلمُ إلى شدِّ الكلمات وإحكامِ تعليقها ببعض إحكامًا يتجاوزُ المعايير النحويّة إلى المحاسن الصوتيّة؛ لأنّ حسن صوت الحروف جزء من معاني الكلمة، والكلام لا يُبنى إلا من مجموع الكلمات. ولو أردت التّأمّل لدللتُكَ على كلمتين تشعرُ فرقٌ ما بينهما في الصوت وهما: (العشق)، و(الحُبّ)، وقد بحثتُ في الشعر المتقدِّم فلم أجد لكلمةِ العشق دورانًا كما هو الحال مع كلمة الحُبّ، بل...
الترويع من مادة (روع)، وهو أصل يدلّ على فَزَعٍ أو مستقرِّ فَزَعٍ، ودلالته هنا إما أنْ تكون على السلوك أو منشأ السلوك، فالفزع إما أن يدلّ على الذُّعرِ أو الإغاثة، وفي كلٍّ منهما حركةٌ واضطراب إلا أنّ اضطراب الذعر يحجم بالنفس أنْ تقدم، واضطراب الإغاثة يدفعها نحو الإقدام، ولسنا في حاجةٍ إلى بيان ذلك في منشأ الفزع؛ لأنّك إذا قصدتَ الفزع شملت منشأه، وإذا تكلمتَ عن منشئه أشرتَ إلى الاضطرابِ الذي يتولَّدُ عن فزع الرَّوع. والسؤال هنا: ما فائدة ذلك في براعة الترويع في القرآن الكريم؟ والجواب في تقديري والله أعلم أنّ الترويع في القرآن الكريم يقصدُ منه أنْ يتحقق في القلب الخوف والرجاء؛ لأنَّ الخوف ذعرٌ مانعٌ من اقتراف عكس المخوف منه، والرجاء أملٌ فيه بعض الانتظار لمحبوب. والسور التي افتتحت بما يفيد...
التحدي البلاغي أنْ يُضمَّ إلى الإفهامِ المتابعة لمسالك العرب في كلامها، وهذا الشرط هو جوهرُ الفكرةِ البلاغية عند المتكلِّمين وأرباب الكُتَّاب الذين اشتغلوا بتدبير المعاني السلطانية بالألفاظِ التي يدركها النَّاس على اختلاف طبقاتهم. ومعنى هذا أنّ المتكلمين يرون تحقق وصف البلاغة عندما يكتمل شرطان: ١. الإفهام. ٢. الاقتداء بمجاري كلام العرب الفصحاء. وشرطا الإفهام والاقتداء يمنعان من دخول الكلام الذي غايته الإفهام كالكلام الجاري في الأسواق، والكلام الذي تنقل به الطُّرَف والمضحكات، والأحاديث مع غير العرب من الذين يخطئون في الإعراب أو يلكنون، وهذا كله لا يدخل في البلاغة عند المتكلمين، بل هو كلامٌ ينهضُ بركن الإفهام وهو أكثرُ كلام البشر. أمَّا البلاغةُ فذكاء المتكلِّم المعبَّرُ عنه بالإفهام، وهويته...
قال الجاحظ: "مدار الأمر على البيانِ والتُّبيّن، وعلى الإفهام والتّفهم، وكلّما كان الإنسانُ أبينَ كان أحمد" في هذا النصّ يردد الجاحظ الأمر والشأن والقضية المدروسة على (البيان والتبيُّن)، وعلى (الإفهام والتّفهّم). ويهمني في هذا النّصّ أنّ الكلام يمكن أنْ نقسمه إلى كلام يقوم على البيان والتبيّن، وكلامٍ آخر يقوم على الإفهام والتفهم، وهذان القسمان يرتبان ترتيبًا تصاعديًّا. أولهما الكلام الذي يقوم على (الإفهام والتفهم) وهذا الجزء المنقول بالكلام وهو (الإفهام والتفهم) يشتركُ فيه البشرُ جميعًا في أحاديثهم ومراجعاتهم الكلام مع بعضهم، ويشملُ هذا الأمر كل تلك المنقولات والعلامات التي تبلّغك مضمونها ليستقرّ في ذهنك. والآخر منهما الكلام الذي يقوم على (البيان والتبيّن) وهنا ينضمُّ للإفهام فصل الهويّة...